فصل: (سورة التوبة: آية 113)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.ومن فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة التوبة: آية 111]

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
مثل اللّه إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى. وروى: تاجرهم فأغلى لهم الثمن. وعن عمر رضى اللّه عنه فجعل لهم الصفقتين جميعًا. وعن الحسن أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها.
وروى أن الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد اللّه بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم.
قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة.
قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. ومرّ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابىّ وهو يقرؤها فقال: كلام من؟ قال كلام اللّه.
قال: بيع واللّه مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد {يُقاتِلُونَ} فيه معنى الأمر، كقوله: {تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} أنزلت هذه الآية؟ فقال: نعم، فقال بيع رابح. لا نقيل ولا نستقيل. وأخرجه عبد بن حميد: حدثنا إبراهيم هو ابن عبد الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة «لما نزلت هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى...} قال رجل من الأنصار يا لها بيعة، ما أربحها. واللّه لا نقيل ولا نستقيل» وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب وغيره قالوا: قال عبد اللّه ابن رواحة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «اشترط لربك ولنفسك ما شئت قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا فإذا فعلتا ذلك فما لنا؟ قال الجنة قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل».
وقرئ: {فيقتلون ويقتلون} على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول، وعلى العكس وَعْدًا مصدر مؤكد. أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته {فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} كما أثبته في القرآن، ثم قال: {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغنى الذي لا يجوز عليه القبيح قط، ولا ترى ترغيبًا في الجهاد أحسن منه وأبلغ.

.[سورة التوبة: آية 112]

{التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}
{التَّائِبُونَ} رفع على المدح. أى: هم التائبون يعنى المؤمنين المذكورين. ويدل عليه قراءة عبد اللّه وأبىّ رضى اللّه عنهما: التائبين، بالياء إلى: والحافظين، نصبًا على المدح. ويجوز أن يكون جرًا صفة للمؤمنين. وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أي: التائبون العابدون من أهل الجنة أيضًا وإن لم يجاهدوا، كقوله وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وقيل: هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر، أى: التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق. و{الْعابِدُونَ} الذين عبدوا اللّه وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها. والسَّائِحُونَ الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم. وقيل: هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه.

.[سورة التوبة: آية 113]

{ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)}
قيل قال صلى اللّه عليه وسلم لعمه أبى طالب: أنت أعظم الناس علىَّ حقًا، وأحسنهم عندي يدًا، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي، فأبى، فقال: لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه، فنزلت.
وقيل: لما افتتح مكة سأل أي أبويه أحدث به عهدًا؟ فقيل: أمك آمنة، فزار قبرها بالأبواء، ثم قام مستعبرًا فقال: إنى استأذنت ربى في زيارة قبر أمى فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزلت. وهذا أصح لأنّ موت أبى طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة. وقيل: استغفر لأبيه. وقيل: قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوى قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه ما كانَ لِلنَّبِيِّ ما صح له الاستغفار في حكم اللّه وحكمته {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} لأنهم ماتوا على الشرك.

.[سورة التوبة: آية 114]

{وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
قرأ طلحة {وما استغفر ابراهيم لأبيه}، وعنه: وما يستغفر إبراهيم، على حكاية الحال الماضية {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} أي وعدها إبراهيم أباه، وهو قوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} ويدل عليه قراءة الحسن وحماد الرواية: وعدها أباه. فإن قلت كيف خفى على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت: يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوّز أن يغفر اللّه للكافر. ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه: لأستغفرنّ لك ما لم أنه. وعن الحسن قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن فلانًا يستغفر لآبائه المشركين، فقال: ونحن نستغفر لهم فنزلت وعن على رضى اللّه عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له، فقال: أليس قد استغفر إبراهيم فإن قلت: فما معنى قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}؟ قلت: معناه: فلما تبين له من جهة الوحى أنه لن يؤمن وأنه يموت كافرًا وانقطع رجاؤه عنه، قطع استغفاره فهو كقوله: {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. لَأَوَّاهٌ} فعال، من أوه كلئال من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه. ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته عليه وقوله لأرجمنك.

.[سورة التوبة: الآيات 115- 116]

{وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)}
يعنى ما أمر اللّه باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالا، ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها: وهي أنّ المهدىَّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات اللّه داخل في حكم الإضلال.
والمراد بـ {ما يتقون}: ما يجب اتقاؤه للنهى، فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر، وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف.

.[سورة التوبة: آية 117]

{لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)}
{تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند اللّه، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب اللّه عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه، كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ}. {فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم:
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ

وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ** عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا

إذَا جَاءَ يَوْمًا وَارِثِى يَبْتَغِى الْغِنَى ** يَجِدْ جُمْعَ كَفّ غَيْرَ مَلْأَى وَلَا صِفْرِ

والعسرة: حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر: يعتقب العشرة على بعير واحد.
وفي عسرة من الزاد: تزودوا التمر المدود والشعير المسوّس والإهالة الزنخة، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء. وفي عسرة من الماء، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها. وفي شدّة زمان، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة {كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه. وفي {كاد} ضمير الشأن، وشبهه سيبويه بقولهم: ليس خلق اللّه مثله. وقرئ: {يزيغ}، بالياء. وفي قراءة عبد اللّه: {من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم}، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبى لبابة وأمثاله {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} تكرير للتوكيد. ويجوز أن يكون الضمير للفريق: تاب عليهم لكيدودتهم.

.[سورة التوبة: آية 118]

{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
{الثَّلاثَةِ} كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. ومعنى {خُلِّفُوا} خلفوا عن الغزو. وقيل: عن أبى لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعدهم. وقرئ {خُلِّفُوا} أي خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم.
وقرأ جعفر الصادق رضى اللّه عنه: {خالفوا}.
وقرأ الأعمش: {وعلى الثلاثة المخلفين بِما رَحُبَتْ برحبها}، أى: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكانًا يقرّون فيه قلقًا وجزعا مما هم فيه {وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} أي قلوبهم، لا يسعها أنس ولا سرور، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ.
{وَظَنُّوا} وعلموا {أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ} سخط {اللَّهِ إِلَّا} إلى استغفاره {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا، وليتوبوا أيضًا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علمًا منهم أن اللّه تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. روى أن ناسًا من المؤمنين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به. عن الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيرًا من مائة ألف درهم فقال: يا حائطاه، ما خلفنى إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل اللّه. ولم يكن لآخر إلا أهله فقال: يا أهلاه ما بطأنى ولا خلفنى إلا الضنّ بك لا جرم، واللّه لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول اللّه، فركب ولحق به. ولم يكن لآخر إلا نفسه لا أهل ولا مال، فقال يا نفس ما خلفنى إلا حب الحياة لك واللّه لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول اللّه، فتأبط زاده ولحق به.
قال الحسن: كذلك واللّه المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها. وعن أبى ذرّ الغفاري: أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماشيًا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رأى سواده: كن أبا ذرّ، فقال الناس: هو ذاك، فقال: «رحم اللّه أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» وعن أبى خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الضحّ والريح: ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح، فمدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب فقال: كن أبا خثيمة فكأنه. ففرح به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واستغفر له. ومنهم من بقي لم يلحق به، منهم الثلاثة قال كعب: لما قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلمت عليه فردّ علىّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال: ليت شعري ما خلف كعبًا؟ فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال: معاذ اللّه ما أعلم إلا فضلا وإسلامًا ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدًا وكنت كما وصفني ربى {ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين، فقام إلىّ طلحة بن عبيد اللّه يهرول حتى صافحنى وقال: لتهنك توبة اللّه عليك، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر: «أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ثم تلا علينا الآية. وعن أبى بكر الورّاق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال: إن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.